الأمر ودلالته في ديوان البحتري
الطالب: بلجة نور الدين
كلية الآداب واللغات والفنون
جامعة الجيلالي اليابس –سيدي بلعباس-
التّراكيب النّحويّة الطّلبية ( الأمروالنّهي...) لا يعتريها أيّ عدول أو تغيير نحويّ أو لغويّ لا يمسها طارئ ما في الإسناد من جهة المسند والمسند إليه وحتّى القيود المتّصلة بهما. إنّ هذه التّراكيب تساق تامّة كاملة وفق نّظام اللّغة العربيّة المتعارف عليه، وهذا ما نجده بنسب متفاوتة في النّصوص النّثريّة ذات التّعبير المباشر التّقريريّ والنّصوص الشّعريّة الحديثة . لكن في الوقت ذاته فإنّ التّراكيب في العديد من الأحيان توظّف من قبل المخاطب لا يريد منها الظّاهر المعلوم الّذي تصرّح به، وإنّما يريد منها مقاصد ورسائل أخرى، لا تنال بمجرد القراءة الأولى ، بل تتطّلب قراءات متعدّدة تشوبها المشقّة والعناء، التّدبّر والتّفكير، يستنهض فيها القارئ بكل ما يملك من موروث ومكتسب، وخبرات وزاد . وهذا ما سنتناوله في أسلوب الأمر.
الأمر:
أسلوب الأمر واحد من الأساليب التّعبيريّة الّتي لا يمكن أن يستغني أيّ شاعر في أيّ فنّ نظم فيه ، وفي أيّ غرض استرسل فيه، فهو إمّا متوجه أو عدو ، إلى فرد أو جماعة ، إلى من هو أسفل منه، أو من هو متساو معه في المكانة، أو هو أعلى منه مرتبة ، وقد يتوجّه به إلى نفسه في حالات معيّنة .وقد عُدَّ واحدا من أهمّ الأسس الّتي ينبني عليه الخطاب الشعريّ، فلا غزو أن تكون ( قواعد الشّعر أربع : أمر ونهي وخبر واستخبار)1 ، من هذه الرّؤية سارع علماء البلاغة إلى متابعة هذه الصّيغة من مختلف الجهات، فقرّر أنّ الأمر ( اصطلاحا ما قرن باللام الجازمة أو ضمن معناه ، ولغة حصول الثّبوت في الخارج بذلك على وجه الاستعلاء و أظهر أنّ صيغة الأمر موضوعة لذلك لتبادر الفهم عند سماعها إلى الأمر وتوقف ما سواه على القرينة، ولا تفاقهم على إضافة الصّيغ إلى الأمر دون غيره، ولا شبهة أنّ الطّلب على وجه الاستعلاء يستدعي إيجاب المطلوب، فإن كان الأمر من الأعلى استتبع إيجابه وجوب الفعل بحسب ، وإلاّ أفاد الطّلب في ضمن الدّعاء أو الالتماس أو الإباحة، أو التّهديد، أو التّحدي أو إظهار الرضا بوقوع الدّاخل تحت الطّلب إلى حدّ كان المُرضى مطلوبا)2، فالمقاصد وراء توظيف أسلوب الأمر جمّة ، وهو ما سنجتهد في بيانه من خلال نماذج شعرية متنوّعة.
يقول البحتري:
وقد قلت للمعلي إلى المجد طرفة دع المجد فالفتح بن خاقان شاغله
سنان أمير المؤمنين وســــــــيفه وسبب أمير المؤمنين ونـــــــساله
يـــــــــــــشبّ به للناكثين حروبه وتدلوا به للخاطبين نوافلـــــــــــــه 3
وردت هذه المقطوعة في قصيدة " حلال كالمدام وشمائل كالنّسيم" ، تقع مباشرة بعد انتهاء الشّاعر من المقدمة الّتي افتتح بها قصيدته واّلتي ضمّنها غزل بليلى عماده الحبّ والشّوق والبكاء والهجران ، يستهل الشّاعر مقطوعته بواو الاستفتاح الّتي تليها الأداة (قد ) وهي من مؤّكدات الخبر، الملتصقة مباشرة بالجملة (قلت) والقول هنا موجه به إلى شخص أورده بمجموعة من الأوصاف : الإعلاء بما حمل من إرادة ورغبة وطموح من أجل الوصول إلى المجد.
مقولة القول ورد في بيت العجز (دع المجد) والأسلوب هنا أمر، مكوّن من :
- فعل الأمر : دع
-الفاعل: ضمير مستتر يعود على المأمور ( المعلي إلى المجد طرفه)
-المجد: مفعول به منصوب وهو ماهية الأمر وعندة الأسلوب.
وهكذا تتّضح الأركان الأربعة لأسلوب الأمر: الشّاعر ،فعل الأمر، دع، المأمور: العلى إلى المجد طرفة، المأمور به: المجد، ولا ينتهي سياق الأمر بانتهاء الجملة (دع المجد) والقرينة الأولى الدّالة على ذلك أداة العطف (الفاء) وبناءً على ذلك فالجملة التّالية الواردة بعد الجملة الأولى (الفتح بن خاقان شاغله ) معطوفة عليها ولا يخفى الدّارس النّحوي والبلاغيّ والأسلوب ما الجملة العطف الثّانية من علاقة قويّة بالجملة الأولى فالجملة المعطوفة عليها (دع المجد) والجملة المعطوفة هي (فالفتح بن خاقات شاغله) أنّ الأمر الوارد في جملة ( دع المجد ) يبدوا أنّه غير مقصود لذاته بل يراد منه عدّة معان منها: الاستنكار لهذا السّلوك والاستهزاء من هذا الشّخص والتّقريع له فالمجد ليس منزلته ولا مكانته، والمجد ليس بمستحق له ولا يمكن أن يصل أو يصير إليه فهو دون ذلك وأبعد منه بكثير ، وتأتي الجملة أنّها سبقت لتبرر الأمر وتحتج بالطّلب ولكي تكشف عن صوابه وسداد ما دام أنّ الوزير الفتح بن خاقان هو شاغله، وذكر اسم العلم ولم ترد فقط للتّحديد والتّعيين والبيان بل جيء به للتّخصيص والإفراد فهناك مجد واحد وهناك شاغل له واحد مخصص به.
ويلقي الشّاعر من خلال توظيفه لعبارة (شاغله) عدّة إيحاءات في ذهن المتلقي فمكان المجد مملوء وخيره مشغول ، لا مكان لأحد و لاحظ فيه لآخر قط، وكان المجد وجد للفتح بن خاقان وهذا الأخير وجد له ، بمثل هذا الشحن الإيحائي لأسلوب الشعر يتجلى لنا (( طبع الشاعر وذوقه، فهو يطبع العبارة بطابع القوّة أو الجمال ، ويكسبه روح الشّاعر وشخصيّته الفنيّة الممتازة ، وفيها يحار النّقاد ويسميها مرة عبقريّة الشّاعر، ومرّة شيئا يدرك ولا يمكن تعليله وتفسيره ، تدركه في قوّة المتنبي ، وجمال البحتري، ورقّة جرير في النّسيب ، وسهولة أبي العتاهية ، وبهاء زهير)).4.
ومادام الأمر على هذه الحال فمحاولات اعتلاء سلم المجد محاولة عابته وتافهة وفاشلة ، وصاحبها لا يعرف قدر نفسه وقدر الوزير الفتح بن خاقان الّذي يمتلك شتّى المؤهلات الّتي تمكنه من اعتلاء عرس المجد ، ويورد الشّاعر البيتين التاليين للبيت الأول مفسّرا سبب استحقاق ابن خاقان للمجد، فالقوّة الماديّة من سيف وسنان موجودة، والقوة الأخلاقيّة من كرم وسخاء متوفّرة كذلك .
يقول البحتري:
وما أقفلت عنا جوانب مـــطلب نحاوله إلا افتتـــــــــــــحناه بالفتح
فداؤك أقوام سبقت ســـــــراتهم إلى القمة العياء ، والــــخلق السمح
وعدات ، فأوشك نجح وعد ، إذ من المجد إعجال المــواعيد بالنجح
و أنت ترى نصح الإمام فريضة وإخباره عني سبيل مــــــن النصح 5
وردت هذه القصيدة في ( بدر الأفق) بعد البيت السادس، والقصيدة جميعها متوكونة من إحدى عشر بيتا ، أسلوب الأمر يقع في عجز البيت الثالث ( أوشك نجح موعدك ) وعناصر هذا الأمر هي :
-صيغة الأمر : فعل الأمر ( أوشك )
-الفاعل : الضمير المستتر العائد إلى الفتح بن خاقان وهو المأمور
-نجح موعدك: المفعول به المتبوع بالمضاف إليه الأول ( موعد) والمضاف إليه الثاني ( ضمير المتصل وهو الكاف المخاطب المفرد)
والمفعول به مع المضافين هما ماهية الأمر وجوهرة فهم المأمور به.
-الأمر هو الشاعر المخاطب المريد إنجار الموعد من قبل المخاطب (ابن خاقان) لقد سبقنا في البيت الثالث الذي ورد فيه أسلوب الأمر والثاني وذلك لنرى أنها شديد الصلة بأسلوب الأمر .
ففي البيت الأول يؤكد أنه في حاجة تعتبر تحقيقها وما.. صعب إنجازه وتحقق إلا وتتبشر وتسهل بمجرد تدخل فتح بن خاقان، وفي الثاني يقرران أن الناس الذين يحيطون به ويحبون ...دونه في الخلق وفي باب المجد ، بعد ... بأن وقد وعد بعد هذا كله ثاني بطلب ( أوشك نجح موعدك ) فهو لا يصرح .. المأمور به إنه موعد فالفظ هنا عام غير خاص ولا منفذ ما يكشف شدة الطلب وقوة الحاجة ويفهمهم من فعل الأمر أوشك : اسع ، تحرك ، بادر، سابق، ويأتي أسلوب التوكيد الوارد بعد الأسلوب بحسب ذلك أنه محض النصح .
يقول البحتري :
عش حميدا ، فما ندم زمانا جارنا فيه فعلك المـــــــــــحمود
أخذت أمتها من البــــــؤس أرض، فوقها ظل سيبك الممدود6
هذه المقطوعة من قصيدة ( خلال من الندى والجود ) وردت بعد البيت الخامس عشر –يقع أسلوب الأمر في بداية صدر البيت الأول ( عش حميدا ) ويتركب هذا الأسلوب من العناصر التالية:
-صيغة الأمر: فعل الأمر ( عش)
-الفاعل: الضمير المستتر الذي يعود إلى الضمير المخاطب المفرد المذكر (أنت ) والمقصود هنا الوزير الفتح بن خاقان ، وهو الأمر المأمور.
-الحال المنصوب وقد وردت مفردة ( حميدا) وهي العنصر المأمور به.
الآمر: هو الشاعر البحتري المادح .
الأمر هنا ينبغي ألا يفهم على ظاهرة وإنما يفهم منه الدعوة اللطيفة والتمني اللين بأن يعيش الوزير عيشة حميدة راغب فيها كل واحد وراض عنها كل شخص وفرح بها كل فرد، عيشة حميدة راضية مرضية يحيط بها الاطمئنان والراحة ويحفها القرار والسكينة، هذه العيشة الحميدة التّي يتمناها النّاس للفتح بن خاقان لم تلد من فراغ وإنّما أملأها الواقع و أوجبها الحال وفرضها فرضا رغبة ورهبة ما يصدر من أفعال حميدة من لدن الوزير ، إذن فتمني العيشة الحميدة من الشّاعر للوزير بما تحمل من لطف وفطانة تكشف لنا بكيفيتها (( أنّ اللّغة سوى مظهر الوظيفة الرّمزيّة، مصوغة من طرف الإنسان في إطار تفاعلاته مع الوسط المادي والاجتماعي))7، مباشرة بعد الجملة الّتي احتضنت أسلوب الأمر، أورد الشّاعر جملة أخرى عليها (فما ندم زمانا جادنا فيه فعلك المحمود) فلان فعله كان خيرا وبرا وكان نفعا وصلاحا حمده النّاس وشكروه وأثنوا عليه، استحق بكل إخلاص وصدق عيشة من جنس فعله، وهنا يلتفت الفكر إلى حكمة بليغة تضمنها البيت بطريقة غير مباشرة وهي أنّ فعل الخير لات يورث صاحب إلا خيرا، وإذا حمد الفعل حمدت العيشة والحياة والعكس فالشّر لا يفضى إلى الشّر وإذ سخط عن الفعل شانت العيشة.
وإذا انتقلت إلى البيت الثاني فإنّنا نلقى الشّاعر يقدّم تفسيرا كاشفا خلاله السّبب الّذي جعله يطلب له العيشة الحميدة، أنّ البلاد تعيش في أمن وسلام والعباد يعميهم العطاء الواسع والخير المديد الّذي لا يفتر ولا نقطع .
الهوامش:
1-ثعلب أحمد بن يحي، قواعد الشّعر، تح رمضان عبد التّواب ، مكتبة الخانجي، القاهرة ، ط2، 1995 ، ص 31.
2-المصباح في المعاني والبيان والبديع ، تح عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلميّة، بيروت ، ط1، 2001، ص 152.
3-البحتري ، الديوان ، ج2 ،ص 214.
4-أحمد الشايب ، الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية ، ط11 ، 2000، مكتب النّهضة المصرية، ص 72.
5-البحتري، الديوان، ج1، ص281.
6-البحتري، الديوان، ج2،ص 214.
7-عمر أوكان ، اللغة والخطاب، إفريقيا الشرق، المغرب، 2001،ص24