الرئيس السوري فى القاهرة
كانت تلك إحدى المرات النادرة التى بكى الرئيس جمال عبدالناصر، بعد خمس سنوات من تمزق الوحدة المصرية- السورية، أى فى عام 1966، خلال تقديم السفير السورى المثقف الدكتور سامى الدروبى أوراق اعتماده إلى الزعيم عقب عودة العلاقات بين القاهرة ودمشق، وفى موقف يحفه الجلال والأسى، خاطب الدروبى عبد الناصر، قائلا إذا كان يسعدنى ويشرفنى أن أقف أمامكم، مستشرفا معانى الرجولة والبطولة، فإنه ليحز فى نفسى أن تكون وقفتى هذه كوقفة أجنبى، كأننى ما كنت فى يوم مجيد من أيام الشموخ مواطنا فى جمهورية أنت رئيسها، إلى أن استطاع الاستعمار متحالفا مع الرجعية أن يفصم عرى الوحدة الرائدة فى صباح كالح لكن عزائى عن هذه الوقفة التى تطعن قلبى يا سيادة الرئيس والتى كان يمكن أن تشعرنى بالخزى حتى الموت، إنك وأنت تطل على التاريخ، فترى سيرته رؤية نبى وتصنعه صنع الأبطال قد ارتضيت لى هذه الوقفة، خطوة نحو لقاء مثمر بين قوى تقدمية ثورية، يضع أمتنا فى طريقها إلى وحدة تمتد جذورها عميقة فى الأرض فلا انتكاس، وتشمخ راسخة كالطود فلا تزعجها رياح، ذلك عزائى يا سيادة الرئيس وشفيعى عندك، وعند جماهير أمتنا العربية التى لا تعترف بالانفصال إلا جريمة، وشفيع من ندبونى لهذه الوقفة ثوارا شجعانا يقفون فى معركة النضال العربى الواحد على خط النار هنا بكى ناصر ومن حوله، ثم تحدث بصوت تخنقه العبرات يسعدنى أن أستقبلكم فى الجمهورية العربية المتحدة لا كأجنبى، لكن كابن من أبناء الأمة العربية التى هى أمة واحدة، فتلك حقيقة تاريخية لا ينكرها إلا أعداؤنا، إن الشعب العربى فى مصر يكن دائما الاعتزاز والتقدير للشعب العربى فى سوريا، والشعوب فى نضالها نحو أمانيها قد تنتصر مرة وقد تصيبها النكسة مرة، لكن إصرارها على تحقيق رغبتها يحرز دائما الانتصار فى النهاية، إن الأفراد مآلهم إلى الزوال أما الشعوب فهى الباقية على نضالها لتحقيق أمانيها وأهدافها.
مصادر تاريخية كثيرة أوردت ذاك المشهد بين الرئيس والسفير، وبرغم الشحنة العاطفية الطاغية عليه، فإنه يكشف بجلاء عميق عن الوشائج الصلبة بين مصر وسوريا أوبالأحرى بين مصر والشام، منذ فجر التاريخ وعبر أزمان متطاولة، كانتا كيانا واحدا، آخرها دولة الوحدة فى الخمسينيات، إنهما معا النواة الصلبة للأمة أمام المحن، ضد الصليبيين والتتار وبقية طابور الغزاة، الأمن القومى المصرى يبدأ من هضبة الأناضول، وسوريا خط دفاعه الأول، مازال مسمى الجيش الأول فى سوريا، والجيش الثانى والثالث فى مصر، انتكسا معا وانتصرا معا، كلاهما شريك فى نصر أكتوبر تشرين 1973 الباهر الذى وحد العرب من المحيط إلى الخليج، ضد إسرائيل ومن وراءها.. العلم السورى يحمل نجمتين ترمزان لمصر وسوريا. طوال السنوات الثمانى الماضية، رقصت سوريا تانجو مع الموت، تعمدت ببحار الدم، أشقاء وأعداء، ساقوها لهذا المصير المروع، كادت تتبخر من الوجود، كقطعة زبد فوق صهد النار، أموال عربية وأطماع تركية وإيرانية وشرقية وغربية والأهم إسرائيلية، كثرة الطهاة أفسدت الطبخة، اعترف حمد بن جاسم رئيس وزراء قطر بإنفاق مليارات الدولارات، لزرع الكيانات الإرهابية الدموية فى أراضى الشام، أسلمها عرب الخليج إلى مرتزقة العالم، ولغوا من الدماء السورية، لكن الطريدة أفلتت من الصيادين، بتعبير بن جاسم، مصر وحدها ظلت استثناء، وقفت بإخلاص مع سوريا شعبا وجيشا.
كان تخلص القاهرة من حكم الإخوان بشارة نجاة دمشق من الغرق التام فى مستنقع الدم، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسى مرارا على ضرورة الحفاظ على وحدة أراضيها، ودعم الجيش العربى السورى.. دفعت مصر ثمنا فادحا لموقفها من سوريا، هل تذكرون الحظر النفطي؟!. اليوم يراجع بعض العرب مواقفهم، ربما يتلمسون جادة الصواب، بإعادة سوريا إلى مقعدها بالجامعة العربية، تأخذ القاهرة على عاتقها تأهيل دمشق، عربيا وإقليميا، بهدوء ودون جلبة، بينما النظام العربى مخترق وغير قادر بنيويا على الاستجابة لما تعانيه البلاد العربية من أزمات وحرائق.
العودة المصرية المتأنية لا تروق للاعبين مثل تركيا وآخرين، وبرغم كل العراقيل فإنه على قاعدة المصالح الاستراتيجية ينبغى أن يكون دور مصر أكثر سطوعا وقوة بالمشهد السورى، حضورها أمن لها وأمان لسوريا، حتى لو استيقظنا ذات صباح على الرئيس السورى بشار الأسد فى القاهرة، كأول عاصمة عربية يزورها، مصر وسوريا نجمتان فى علم واحد.
بقلم د.محمد حسين أبوالحسن الاهرام المصرية