صلاة الحبّ
بقلم: حسين أحمد سليم
باحث و مهندس فنّان تشكيلي عربي من لبنان
تغفو, تنام كلّ الأشياء, تُودّع النّور, تُلملم الحبّ مع إغفاءة الشّمس.
سمرمر بلادي, السّنونو الطّوّاف, خفافيش الليل, تشكيل من العصافير, القراقف الزّرق, قبّرات الحقل, ديكة الأرض, الحساسين البرّيّة, بلابل الدّوح والشّحارير...
حُشود تُواكب مهرجان الغروب, قبيل إغفاءة الشّمس, تؤذّن للمساء, تذيع الحبّ, لصلاة الحبّ.
كلُّ عرف صلاته في ملكوت الله, الكلٌّ يصلّي.
نهر قريتي, سقسقة مياهه طروبة, تُغنّي الحبّ في الخرير, تبتهل لله عند المساء في رحاب الأنسام... تُحاكي, تُناجي, تُخاطر نجوى الأنسام.
سماء قريتي تزدان بالنّجوم, كوكبات تتألّق بالأطياف, ومض بريقها صلاة الحبّ.
أنخطفُ مُجنّحا, أرود محراب بلادي, أدرج في الرّواق, أتوضّأ صعيدا, الماء بارد يُنعشني.
أندسّ خلسة بين المصلّين, أدخل الصّلاة, أرفض الإئتمام. بي إنخطاف آخر إليك ربّي, يُجنّحني إليك.
جئت المسجد, روض الرّشاديّ, نبيّ التّاريخ, الوليّ الصّالح. في صلاتي أطارح الحبّ, أخاطر العشق عند حجارة المقام.
حُبّي الكبير, حبّكَ أنتَ...
في روعة المساء, في هذي الرّحاب, في محراب قريتي, ألتقيكَ ربّي.
في سنا الإبداع, في صمت الخشوع, في همس الدّعاء, بين التّكبير والتّعظيم.
هنا إلهي, بيننا يدوم اللقاء, وطويلا يدوم...
ومضة من الزّمن من تجوالي الكونيّ, كينونة وجداني بين يديك. قليلا تستريح, تقيم لكَ صلاة الحبّ, حبّي الكبير, حبّكَ أنتَ.
قلبي الصّغير يخفق بالحبّ, نفسي تتطهّر بالحبّ. أحاكي البعد الآخر, أودّع مواثيق التّراب, من هجعة الأبد قاب قوسين أو أدنى أبيت مطمئنّا...
الحبّ, صلاة أخرى, فريضة الوجود. أقسم بالله, كافر, كافر بالله, من لم يُصلّ لله, صلاة الحبّ...
للحبّ, للحياة, شاء الله الوجود, للحبّ, للحياة, تنزّلت من السّماء رسالات الحبّ, وتألّقت الأرض بأنبياء الحبّ, وتلألأت الحياة بكتب الحبّ...
وصايا ورسائل, مزامير وأمثال, بشارات وآيات, وساد الحبّ وإشتعل النّاس قرابين الحبّ.
سرمدا أبدا, مليك الحبّ, تجلّى بالحبّ, للرّسل, للأنبياء.
محاكاة حبّ في خواطر التّفكّر... خاشعا, ساجدا لعظمة الله.
بالحبّ خرّ العقل مكبّرا, معظّما ربّ السّماء.
ربّ الحبّ في القلوب خلّد الحبّ, وغدت بالحبّ تنبض القلوب...
تفترّ نفسي بالحبّ, ترتعش روحي في سكرة المساء, تنساب في الظّلّ, ترتعش الأشياء, تتوهّج بالحبّ, تبرقع الأفق بالحبّ يتمزّق, حمرة الشّفق لوحة التّجريد, تُذيب شغفي, تُلهب ولهي, تُثيرني عشقا, أبوح بالحبّ كارزا, صارخا في أذن الحياة...
إبتهالاتي, تراتيلي, شجي مزاميري في البعد تسري, تنساب, تترنّح في قلب الورود, في عُبّ السّواسن, تُمارس الولوج, تشتعل بالحبّ... رحيق الأزهار, نسغ الورود, ينبض بالحبّ... هدأة المساء في فيء السّكون, همس الأشياء في أذن الأشياء, تأخذني الهدأة في غفوة أخرى...
أهامس الحبّ بالحبّ, أملّ وحدتي بالحبّ, تتبرعم هدأتي, تتفتّق ضجعتي, يُولد الحبّ شفيفا من هجعتي, يصير نغما شجيّا, يركب, يعتلي صهوة القريض...
عزفا فريدا على أوتار النّغم, يتماهى الشّعر قصيدة حبّ, أكتب الشّعر قربة لله...
لا ! لست غاويا, ولم ولن ولا يتبعني الغاوون...
من لدن الله , ثملت بالحبّ فأحببت الحبّ, إيمانا بالله, وكتبت الحبّ قصيدة من الشّعر, وخواطر من النّثر...
لكَ ربّي, وجّهت وجهي عابدا لكَ أضحيت, مفتون العبادة, بكَ مُتيّم الوله, بلا رقيب, بلا منازع, سموت في رحابك, أترقّى بالحبّ...
إلى لقائك ربّي, نفسي مُطمئنّة, رُوحي هادئة, قلبي مُنشرح, ذاتي راضية, كينونتي لاهفة, تائها, هائما, أسأل الوجود, أحمل متاعي, راحل إلى جوارك... منكَ, أمتليء بالحبّ...
أيّ إلهي, أنا عبدك الضّعيف, أسيرك الطّليق, كنت, ولم أزل, لا, عنكَ لم يحبسني ترابي, لا, عنكَ لم يحجبني الزّمن, عنكّ لا, لم يغويني الوثن ولم أغرق يوما في عبادات الوثن الأرعن...
عن رؤياك في تفكّري, يوما ما, لم يُعيقني الزّخرف, لا, ولا البهرج الفاني, لم ولن تخدعني يوما أكذوبة الشّهوات ومرايا الإستكبار, وفعل الغرور... لا, لم تغوِ قلبي طلّ الألفاظ, أصواتا مبهمة, وألحانا بائدة... عندها صُمّت آذاني...
هدأ المساء, موئل الحبّ, بقعة ممتدّة الرّحاب, في ظلّها تتداعى كلّ الأشياء, يصغر العالم ويكبر, ويتعاظم لكَ حبّي
إيمانا, يُشرق قلبي, ويعمر صدري عند المساء...
في أثير خلوتي, أمارس البوح, البوح يسكنني, القلم الحاني, لا يعوزني للحبّ, القرطاس النّاصع, لا يحتاجني للعشق...
إيماني بالحبّ رصيدي, إيماني بالله صراطي, حبّ الله قصيدة حبّ, لم ولن ولا تنتهي في المدى, أنقشها للمدى أسطورة حياة, لوحة عشق تتماهى في الوجود, في أذن الوجود أردّدها صدى, في رحلة الصّدى, لحنا سريّا, نغما شجيّا, صلاة حبّ في الوعي, في الهدأة, في الضّجعة...
لكَ ربّي أبتهل بالحبّ, أناجيكّ عشقا في مدى المدى, أشتعل إيمانا بالحبّ في المدى, أصلّي لكَ الحبّ في صلاة الحبّ...
وحدكَ إلهي أنت الحبّ المطلق, وأنت وحدك مصدر الحبّ المطلق... ولغيركَ أبدا, لم ولن ولا يجوز الحبّ, ولم ولن ولا لغيرك تجوز صلاة الحبّ في مساجد, أقيمت صروحها على أعمدة الحبّ لابتهالات وترانيم وموسقات الحبّ...