معالم من نشأة الفنّ التّشكيلي اللبناني
بقلم: حسين أحمد سليم
النّقص التّدويني الذي ورثناه على مستوى التّراجم والأسماء للمرحلة السّالفة ما قبل القرن التّاسع عشر للميلاد, تحجب عنّا الكثير من معالم الفنّ التّشكيلي اللبناني في تلك المراحل... ويبقى علينا حينما نصادف الأثر الفنّي ونعكف على دراسته, فسوف يكشف لنا هذا العمل الفنّي عن تاريخ إنجازه وهويّته الأساسيّة, وإلى حدّ ما عن شخصيّة الفنّان الذي أنجزه, وغالبا ما تظلّ الشّخصيّة الفنّيّة مجهولة...
ومرحلة التّكوين والإنبعاث التّلقائي فرضت ذاتها من خلال إجتهادات فنّانين أخذوا على عاتقهم تأكيد خياراتهم الإبداعيّة عبر التّصوير والرّسم والنّحت, ويُمارسون زمانهم الفنّي التّشكيلي, منطلقين من معطيات كثيرة, لتتبلور في القرن التّاسع عشر عند رعيل من الفنّانين التّشكيليين, الذين درسوا في الأساس التّصوير لأسباب مهنيّة بحتة, وليتحوّل الكثير منهم فيما بعد إلى فنّانين مصوّرين مفتونين بأسرار العلاقة الطّبيعيّة...
ولقد حملت لنا صفحات التّاريخ المدوّن, رغم النّقص, بعض المعالم التي تدلّ على نشأة وبدايات الفنّ التّشكيلي اللبناني, نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
في سنة 1587 للميلاد أوصى الخوري أنطون من بيت الجميّل ببناء كنيسة مار عبدا في قرية بكفيّا وصوّرها على يد الشّدياق إلياس الحصروني... وهذا القول يُفيد ويُثبّت أنّ التّصوير والرّسم والنّحت الدّيني الكنسي وفنون الجداريات كانت مألوفة ومتوارثة في ذلك الزّمن في لبنان...
الرّاهب الفرنسيسكاني غريفون الذي عاش في لبنان ما بين العامين ( 1450 و 1474 ) أرسل تلميذين إلى روما كان أحدهما جبرائيل القلاعي اللحفدي الذي توفّي في العام 1516 للميلاد...
يمكن تحديد البدايات لولادة الفنّ التّشكيلي اللبناني إبتداء من القرن السّابع عشر وما يليه, وذلك على أيدي رهبان فنّانين, عصاميين في الغالب, مارسوا الفنون التّصويريّة وإشتغلوا بالفنون التّزينيّة, أمثال يوسف الباني, حيث قام برسم جداريّة فريسكو بدير شيّدة قنّوبين في العام 1602 للميلاد, وعبد الله زاخر ( 1675 – 1748 ) عبر رسوم ومحفورات دينيّة في دير مار يوحنّا الصّايغ في الخنشارة...
في عهد أمراء آل شهاب تمّ إستدعاء رسّاما إطاليّا ليكون الفنّان الرّسمي لأمراء آل شهاب... وصل هذا الأخير إلى بيروت في العام 1831 للميلاد وتتلمذ على يد هذا الفنّان الإيطالي أوّل المصوّرين اللبنانيين كنعان ديب الذي توفّي في العام 1873 للميلاد, وكانت اللوحة الكنسيّة موضوع ديب الأوّل والأخير وقد رسم أيضا الصّور الشّخصيّة...
أبرز الأسماء التي تركت أعمالا فنّيّة تشكيليّة في القرن الثّامن عشر نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: فرنسيس الكفاعي الذي ترك أعمالا مؤرّخة في العام 1704 للميلاد, وإبراهيم كرباج الذي مارس الرّسم بين العامين ( 1705 و 1746 ) و بطرس قبرص الذي رسم بين العامين ( 1703 و 1744 ) وأسطفان ضوّ ( 1724 – 1814 ) و يُوحنّا الأرمني الذي ترك أعمالا مؤرّخة في سنة 1745 للميلاد, ونسطور مدلج في النّصف الثّاني من القرن الثّامن عشر, ومنصور كامل الذي برزت له أعمال مؤرّخة فس العام 1793 للميلاد, ويوسف صقر الذي ترك أعمالا مؤرّخة في العام 1797 للميلاد, وموسى ديب المتوفّي في العام 1826 للميلاد...
ظهور عدد من الفنّانين شكّلوا مدرسة المشهد البحري في لبنان... وقد تأثّر هؤلاء بالمدرسة الإستشراقيّة وبخاصّة بعد وصول الفنّان الإستشراقي البريطاني بارتلت في العام 1834 للميلاد الذي إستقرّ في بيروت, وصوّر بعض معالم السّاحل اللبناني... ولكن غالبيّة هؤلاء الفنّانين هاجروا إلى بلاد مختلفة من العالم فيما بعد...
حفلت المرحلة السّابقة في القرن الثّامن عشر بأسماء كثيرة من الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين, نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: كنعان ديب المتوفّي في العام 1873 للميلاد, وعبده بطرس المصوّر الذي أنجز بعض الجدرايات الخشبيّة في قصر بيت الدّين سنة 1831 للميلاد, وشكري المصوّر ( 1856 – 1935 ) و إبراهيم سربيه من مواليد 1865 للميلاد, والذي إشتهر بلوحات تؤرّخ لزيارة الإمبراطور غليوم الثّاني لبيروت سنة 1899 للميلاد, ونجيب قيقانو ( 1867 – 1927 ), ونجيب يوسف شكري ( 1872 – 1922 ) ولإبراهيم نجّار من دير القمر ( 1873 – 1936 ) و حسن التّنّير الذي عُرفت أعماله بين العامين ( 1890 و 1898 ) ونجيب بخعازي ( 1914 ) وفنّان من آل دمشقيّة له أعمال مؤرّخة سنة 1893 للميلاد, ورئيف شدودي ( 1872 – 1914 ), وعلي الجمّال ونجيب فيّاض من بيروت, وعبد الله مطر من لحفد, وسعيد مرعي الذي كان مولعا برسوم البورتريه, وسليم حدّاد من عبيه... إضافة للعديد من الذين عاشوا وأنتجوا داخل وخارج الوطن وبقست أعمالهم مجهولة إلى اليوم نتيجة عدم وجود مؤسّسات ومتاحف متخصّصة تقوم بحفظ هذا التّراث من التّلف والضّياع...
إلى هذا فقد شكّل الهواة المرحلة الأولى للإنطلاق في مسيرة فنّيّة لإمتدّت من العام 1861 وحتّى العام 1922 للميلاد, بحيث برزت في أعمالهم المواضيع الفلكلوريّة والقرويّة إلى جانب رسوم الكنائس والبورتريه التي كانت تقليدا طبيعيّا...
وهكذا يبرز لنا أنّ بداية الحركة الفنّيّة التّشكيليّة في لبنان, تعود فعليّا إلى منتصف القرن التّاسع عشر... وهذه النّهضة التي شهدها لبنان في ذلك الوقت, جاءت بعد سلسلة من النّشاط الفنّي الذي حمل طابعا فردّيّا وغير خاضع لأطر واضحة المعالم, ليُشكّل حركة فنّيّة تشكيليّة متجانسة...