حوار النّحّات اللبناني رودي رحمة
حاوره: حسين أحمد سليم
باحث ومهندس فنّان تشكيلي عربي من لبنان
رودي رحمة فنّان لبنانيعصري، لم يتأثّر بفنّان فرد و يمتلك جذور من سبقه، يميل إلى ساعة الرّمل القديمة، و يؤمن عكس فكر جبران تماماً...
بموهبته التي منحه الله تعالى، و المرتكزة إلى مستوى ثقافي اكتسبه منذ طفولته، شكّل الفنّان رودي رحمة ظاهرة بارزة في النّحت اللبناني، و أعماله شهادة على مقدرته وإيمانه الرّاسخ، بأنّ الإنسان هو قمّة العالم...
حاور الفنّان رودي رحمة المواد المختلفة التي يعجنها مع نفسه ليستعملها، و لكن الأبيض و الأسود هما الأقرب إلى أن توصّل لتقنيّة سُجّلت باسمه و أعلنت في فلورنسا "قلم الفحم على الرّصاص"•
الإبداع في مفهومه لمحة بصر من عطاء الله، إيمانه بساعة الرّمل القديمة صراع بين زمنين، منحوتته الأقرب إليه التي لم تنتهِ بعد...
عن فنّه المتجسّد في الأرز، و المخاض العسير بين الطّبيعة و الإنسان، كان لنا هذا اللقاء مع الفنّان رودي رحمة...
إبن الأرز كيف وعى على موهبته الفنّيّة؟
أنا إبن الأرز، تربّيت بين بشرّي و الأرز، و كنت تلميذاً داخلياً في مدرسة عينطورة، بداياتي كان فيها الكثير من المخاض العسير، بين الطّبيعة و الإنسان، و وجود الثّقافات المختلفة في طبيعة الأرز، و التي تقول أشياء كثيرة و أهمّها علاقة الإنسان و تطوّره بالنّسبة للزّمان و المكان و إلى الخالق، و طبعاً الفنّان لا يكون لديه فكرة في صغره، أنّه فنّان...
و قد حصل لي الشّرف معرفة أساتذة و فنّانين كبار من منطقة الأرز إضافة الى اطّلاعاتي الكثيرة، و نشأتي بين وادي قنّوبين و وادي قاديشا، و جبل المكمل و غابة الأرز "الشّيطنة" بين أربع قوى الطّبيعة بلادنا شعرت بوجود خيط صلة و هو الايمان، بأنّ الإنسان هو قمّة العالم• و نحن نستطيع احتواء العالم، و لكن العالم لا يستطيع أن يحتوي إنساناً... هذه هي محطّة الصّغر، و بدأ الفنّ فليس هنا شكل مثل الآخر أو لون أو وادي أو ينبوع مثل الآخر، هناك الكثير من التّنوّع، لذا ولدت فنّاناً متنوّعاً و منفتحاً في حياتي، و بصمت بتنوّعها و متجذّر في هذه الأرض إلى حدود وصولي غابة الأرز و النّحت و كانت بداية مع الرّسم و الشّعر...
هل ولادتك في بشرّي و غابة الأرز وسمتك فنّاناً؟
هذا من البديهيّات لولا طبيعة الأرز لا وجود للعين التي تبصر و تحزّن... هذه الأساس الصّحيح و هناك اللاوعي...
اللاوعي عند الإنسان الأهم، بحيث أنّ العين تلتقط الأشياء و تختزنها في اللاوعي في الصّغر، بعدها ترسل إلى الوعي، و تنفّذ على لوحة أم منحوتة أم قصيدة...
هل كنت متأثّراً بجبران إبن منطقة بشرّي؟
جبران من منطقة بشرّي و أنّني متأثّر به، أقول في النّهاية كنت أتردّد إلى متحف جبران، و تردّدي هذا شعرت بأنّ جبران رغم غيابه عن لبنان، و الذي عاش فترة طويلة في أميركا، تبيّن لي أنّ طبيعة لبنان و الأرض عاشت معه في غربته• و لكنّ جبران يؤمن بالتّقمّص و العودة و الأجساد التي تلبس أرواحها من جديد، و تطهّر و تصعد الى النّيرفانا "العالم الإلهي"...
أنا أؤمن عكس جبران تماماً...
صيرورة الملموس محاكاة للبعد الآخر، في مصير الإنسان بعد الموت؟
أنا أؤمن بالقيامة، و كلّ إنسان يموت روحه تطلع تصاعديّاً، و ليس هناك عودة الى الأرض، و كلّ إنسان له قيامة...
اطّلاعاتك الكثيرة بمن تأثّرت فنّياً؟
سافرت إلى ايطاليا، و بقيت ستّ سنوات، و لم أتأثّر بفنان فرد، بل أملك كلّ الفنّانين، و كل الجذور الذين سبقوني، و أحاول أن يكون جذع خاصّ لي، و الفنّان الكبير هو الذي يلملم بقايا الآخرين و يضعها ليملك جذعاً أو ثمرة له، و هذه الثّمرة تكون بديلة لكلّ الذين سبقوه و تعطي غيره...
ليس هناك اختراع في الفنّ، بل الفنّ تاريخ و تطوّر، وتطوير لفكرة معيّنة عملت عملها البشريّة...
فكرة النّحت على الأرز من أين جاءت، و كيف نفّذت و ما هي المخاطرة التي واجهتك؟ من عمر الثّمانية عشر عاماً كنت أحلم خلال تمضية الصّيف في الأرض، بأنّ هناك أرز ميّت، و هناك إحدى عشرة شجرة أرز ماتت، حلمت بأحيائها و ذلك بالنّحت عليها بدل من قصّها و رميها خارج الغابة، و هكذا جاءت الفكرة...
و كان هناك لجنة أصدقاء غابة الأرز، تعمل على خلق متحف طبيعي للغابة، و لكن لم تكن لديهم فكرة النّحت على الأرز، بل كانت الفكرة بنصب للفرنسيين من كم صخرة... اقترحت أن يكون هذا النّصب شجرة كاملة منحوتة و بدأ المشروع...
و كان العمل فيه الكثير من المخاطر، العمل على سقالات، ارتفاع 39 متر، معلّقة على حبائل في الهواء، و الخطر الأكبر أنّ الفكرة ضخمة، على هذه المنطقة، و على لبنان أيضاً، هي فكرة فنّية عالميّة، و هذه الخطورة انتبهت إليها بعد العمل، و كان هناك صلاة كثيرة، و لأنّنا نعمل في مادّة مقدّسة بالنّسبة لي و للآخرين...
من هنا لم نعمل أيّ شيء قبل الدّرس، و التّدقيق الصّحيح و أكبر من ذلك هو احترام المادّة التي ننحتها• صحيح أنّها كانت ستقصر، و لكن أثناء عملي معها شعرت بالحياة فيها، و سمعتها أحياناً تقول لي "لماذا تلبسني هذا الإطار، أو لماذا تعرّينني أمام رفاقي" و لكلّ سؤال كان الجواب و كان تأمّل...
لو قُصّت هذه الأرزة و رميت خارج الغابة لمحت كلّ الأخبار التي مرّت قربها من خمسماية سنة• بينما بقيت كما هي و زاد عليها الإنسان بعدما سمع ما تريد، و كان هذا العمل عملاً فنّياً رائعاً• و طبعاً النّحت كان وحدي دون مساعدة أحد...
ما هي مراحل ولادة المنحوتة بدءًا بالخيال و انتهاءًا بالمجسّم؟
أوّل مرحلة تبدأ على البروجيّه و الكروكيّة على الورق ثمّ تنتقل على الطّين و الجفصين بعدها إلى المادّة حسب الفكرة، الخشب أو البرونز أو الحجر، و كلّ تقنيّة لها صعوباتها...
هل ترى في لبنان نحّاتين عالميّين؟
طبعاً، لكنّ السّياسة العالميّة غير مهتمّة بهم، و تجربتنا في النّحت ما زالت في البداية، الرّسم تجربته أوسع و النّحت تجربته أضيق، و لكنّها بدأت تتوسّع، و حتّى نصل إلى العالميّة، علينا الإحتكاك مع الفنّ العالمي و السّياسة العالميّة و هذا ما نفتقده...
ما هو دور الدّولة في هذا المجال؟
الدّولة غير مكترثة بموضوع الفنّ و الفنّانين• و عليها أن تعرف كيف تدعم فنّانيها عالميّاً و هذا شيء معدوم...
اللافت في لوحاتك استعمال الباستيل فقط؟
الألوان الفاتحة لا أستعملها يجب أن أدعكها مع نفسي حتّى أستطيع استعمالها، أرى الألوان عند العديد من الفنّانين شبه متطابقة، بينما اللون الذي يلبسنا و الأقرب لي الأبيض و الأسود، الأسود الذي يرتدي كلّ الألوان النّار، التي حرقته و فيه كلّ الموقدة حتّى وصلت الفحمة لنرسم بها، الأسود الذي شرب كلّ ألوان قوس قزح، و عندما أرسم لا أشعر بالأسود و الأبيض بل انّهما عدّة ألوان• و هذا هو الغريب• و الغرابة ممتعة في الفنّ• العين ترى كلّ شيء ملوّن، فالأبيض و الأسود يفعل الصّدفة، و هذه الصّدفة هي الأحلى في الفنّ• و هذه هي التّقنيّة التي وصلت من خلالها إلى تقنيّة تسجّلت عالميّاً باسمي و أعلنت في فلورنسا، إيطاليا، قلم الفحم على الرّصاص، الآن أستطيع الرّسم بالباستيل دون أن نضع الزّجاج على اللوحة و بأحجام عالية ممكن أن تصل الى 6 أو 8 أمتار•
و هذه تقنيّة و ليست اختراع، اكتشفتها مع الوقت حتّى أصبحت أنا و التّقنيّة كانت نتيجة معاناتي مع قلم الرّصاص، و الذي لا أريد فقط خربشات لبدايات الفنّانين يمكن أن تكون مهابة مثل أيّ لون آخر...
ما أثر المرأة في ابداعاتك الفنّيّة؟
لم أعمل على المرأة في منحوتاتي بعد، أنا أعمل لأثبّت نفسي ايمانيّاً، كيف و إلى أين؟ لأنّ الإيمان يأخذ كلّ شيء• و المرأة تأتي بعد الإيمان، لتكون المرأة روحانيّة في حياة الشّخص...
المرأة هي الأمومة، و الطّبيعة و أوّل جنين في حياة البشر• و هي المخاض الدّاخلي• ليست كما الرّجل فهو يحب أن يلمس و يرى، بينما هي تحبّ الحسّ•
هي بيت شعر لا ينتهي• إذا انتهى تقف المرأة، هي قصيدة غير مكمّلة• باستطاعتها أن توصل الأرض مع السّماء، هي بداية خلق أول إنسان "جنين" و تنتهي بآخر روح الى الأزرق الذي لا ينتهي•
ما هو مفهومك للإبداع؟
الإبداع هو لمحة بصر من نعمة الله إذا عملنا عليها الكثير، هذه اللمحة يمكن أن تملأ حياتنا، أنا أؤمن أنّ الفنّانين هم غبار ما تساقط برحمة الله•
ما هي المنحوتة الأقرب إلى نفسك و الأصدق تعبيراً؟
المنحوتة التي لم تنته بعد، لأنّها الوحيدة بالمخاض، فهي الأجمل و الأقرب و علاقتي بها تكون جميلة بحيث لم أتوصّل إلى شيء فيها و هذا ما أحسّه اتّجاهها...
برأيك كيف يمكن الإرتقاء بمستوى الحسّ الفنّي لدى عامّة النّاس؟
يجب أن نبدأ من البيت و المدرسة، و خاصّة بلا مثل لبنان لا شيء فيه يدعو لرؤية المتاحف و المحترفات فهي قليلة• في الخارج نرى كلّ شخص صغير أو كبير يعرف ما هو الفنّ و كلّ ما يختصّ بالفنّان• علينا زيارة المتاحف و الفنّانين و تعليم الحسّ الفنّي في المدارس...
ما الذي يميّز أعمالك؟
الصّدق، لديّ عدّة مدارس مجموعة في منحوتاتي من كلاسّيكي إلى سوريالي، مودرن في الفكرة...
ما هو السّؤال الذي كنت تودّ أن أسألك إيّاه و لم أسأله بعد؟
ما هو الزّمان الذي نحن فيه و إلى أين نصل فيه؟
أنا أؤمن بساعة الرّمل القديمة التي تنزل فيها حبّات الرّمل و تنتقل من مكان الى مكان، و لكنّها تبقى مكانها• و نحن حبّات الرّمل في قلب السّاعة نتصارع و نتسابق في الممرّ حيث ننزل إلى عالم آخر• و هذا العالم لا نستطيع أن نراه بل نحسّه و يمرّ الزّمن و تعود السّاعة و تقلب• نحن في صراع بين زمنين زمن المادّة و زمن الرّوح، و يحسد الذي يعرف أن ينتقل من مكان الى آخر و يلمس اللامكان في النّهاية و يمسك عقربه و يكسر السّاعة...