أحزانُ المثلـَّثِ القائـِم ! - هيَ وطِفلي .. وأنا - ( إزميلِيـَّةٌ على صفحةِ الماء ) / د. نديم حسين
---------
يتخَرَّجُ العُشبُ من هدوئي أشدَّ اخضرارًا . ويُلقي الغروبُ بخدِّهِ على عاتقِ الأفق لتغفو البيوت . تتنهَّدُ الجِهاتُ ريحًا باردةً وتذهبُ الأنهارُ كلُّها إلى بحري الوحيد فيستزيد . والظلامُ الأعمى يتعثَّرُ في دروبي .. إنهَضْ أيها السَّاكِنُ في شَمالي وارصِف دروبَك ! قلبُكَ جِذعٌ مقتولٌ .. أحجيةٌ هادئةٌ أنتَ ، والريحُ أنا .. أنتَ جسدي الوحيدُ ، وأنا البعيدُ .. أنتَ قَسَمي ، وأنا الخائِنُ القديمُ الجديدُ !
عندما خلقَ اللهُ الظلامَ ، خَلَقَ القمر ، لكي أرى كم أنا وحيدٌ ! وكم أنا بحاجةٍ إلى قليلٍ من الشمسِ وماءٍ قليلٍ وأرضٍ كثيرةٍ لآتي إليكِ كموسمِ الكَرَز : مفاجِئًا ومؤقَّتًا ومُشبِعًا .. أو كطقسٍ من المُخمَلِ الأحمرَ المتَّكئِ على جدارٍ شائِكٍ ، يمـُدُّ كفَّهُ بموسمٍ إليكِ ، وظَهرُهُ ينزفُ كلَّ صَمتهِ عليكِ .. يجسُّ بإصبعهِ بَردَ الماءِ ، وعَينهُ على نِصفِ السماءِ .. تعيشُ المفرداتُ في ليلهِ السَّكوتْ .. وعندما يقولُها تموتْ .. هدوءُهُ غامقٌ ، طمأنينتُهُ باردةٌ ، فهل تشعلين صيفَكِ كي ينضجَ القلقُ الثرثارُ ؟ وأنا ، كثيرةٌ جنازاتي وقلبي أبيضُ ، فمن أينَ آتي بثَوبِ الحِداد ؟
أنا بحَّارٌ تنزفُهُ أزقَّةُ غزَّةَ .. يذهبُ إلى البحرِ ليحلِبـَهُ .. يمخُرُ الماءُ المالحُ أخشابَ قاربي المنهَكَة ، فإمـَّا أفوزُ بأسماكٍ قليلةٍ وإمـَّا يفوز بي غرَقي ! مجدافي مُتعَبٌ ، وشِراعي هدَّهُ الدُّوار ..صيَّادٌ مسِنٌّ أنا .. يعمَلُ ويصلـِّي . ويعملُ حتى يتعبَ النهارُ لكي يعودَ لطفلهِ بوجبةِ العشاء . ووعدُ الحُرِّ خبزٌ وقليلٌ من الأسماك الكريمة .. قذائفُ البوارجِ الغريبةِ جائعةٌ .. وطفلُهُ المنتَظِرُ ما أنجبتهُ أمهُ لكي ينامَ جائعًا .. وأنا قاطَعَني البَرُّ ولم يُصادِقني البحرُ تمامًا .. وطفلي يحترفُ الانتظارَ بين بَرٍّ لئيمٍ وبحرٍ بخيلٍ مُذِلٍّ .. لطفلي من المثلَّثِ القائمِ زاويتُهُ القائمة .. ولي التقاءُ ضِلعينِ لزاويةٍ حادَّةٍ كسكينٍ يبحثُ عن كبِدي لأنزفَ ما تيسَّرَ من دمي .. وأنا تنزفُني أزقَّةُ غزَّةَ ، فأذهبُ إلى بحرٍ لأحلبَهُ !!
يتخرَّجُ العشبُ من هدوئي أخضرًا . فما لونُ عينَي عاصفتي ؟ أهلي منشَغِلون عنـِّي بقَتلي ! عميقٌ ليلُهُم . ونومهم غريق .. ناموا حتى تعِبوا .. فمتى تُراهُم يرتاحون ؟! أنا لا أراهُم ، فهل انتهتْ عيناي ؟ وهل نَذَروا ثمارَ كرومهم لسِوايْ ؟!
وتظلُّ غزَّةُ عاصمةَ الحزنِ .. كلامُها بُكاءٌ وبُكاؤُها كلامْ .. مَوجوعةٌ هي مثل خطوةِ الوحيدِ في الزِّحامْ .. عِمارةٌ شاهقةٌ يَغُلـُّها الرُّكامْ .. وتظلُّ سنديانَةً باقيَةً تلكِزُ ثلجَ صَحوِها لتَنامْ .. وتظلُّ قلبَ وردةٍ يغفو على أوراقِها حُسامْ .. وتظَلُّ ، تظَلُّ ، تظلُّ مثلَ حمامةٍ زاجِلةٍ تنتظِرُ الرسالةَ التي " يَهْدِلُها " الحَمامْ !!..