حكايتي مع الدموع السياسية / الاديبة شوقية عروق منصور
عندما رأيت نظرات الأسيرين محمود عارضة ويعقوب قادري وهما في حالة اصفرار وذهول، والفضائيات الإسرائيلية والعربية والعالمية تنقل خبر اعتقالهما بفخر وأضواء القوة ترعد فوق عضلات الاحتلال، شعرت أن زلزال القهر لم يحطم أحلام الهروب والتخلص من السجن فقط ، بل تم اغتيال طيور الحرية التي كانت تحلق فوق سماء الوطن.. وبكيت بصمت .. وكرت مسبحة الاعتقال و بكيت بصوت عال وشتمت عندما اعتقل " زكريا الزبيدي" و " محمد عارضة" ورجعت وبكيت بصمت " مناضل نفيعات" و " ايهم كمجاجي " .
من منا لم يشعر بخيبة الأمل والغرق في مستنقع الوجع عندما تم اعتقال الأسرى الستة ؟ من منا لم يترصد الأخبار ويتنهد كلما مرت الساعات ونشرات الأخبار تؤكد أن البحث جار؟ وكنا نحلل ونرسم ونهدم الحواجز ونلغي الحدود، ونشتم كل من يحاول الإيقاع بهم أو الوشاية عليهم .
وبقيت الدموع والبكاء الصامت لغة العجز أمام هول الواقع الصعب، واكتشفت أن لي حكاية مع الدموع السياسية – ليس الدموع العاطفية - .
أول مرة أرى الدموع السياسية عندما بكى جدي حزناً على مقتل الرئيس العراقي عبد السلام عارف في حادث سقوط طائرة عام 1966 ، فوجئت بدموعه ورفضه تناول طعام الإفطار بعد صوم يوم ، رغم توسل جدتي له بتناول لقمة ، وكنت أتساءل كيف يمكن أن يبكي جدي والجميع يخافونه .. ولم أجد الإجابة ..!! لكن هذه الصورة الباكية نامت في ذاكرتي الصغيرة البريئة ! ووجدت صورة البكاء السياسي تخرج يوم مات جمال عبد الناصر 1970 حيث كان بكاء جدي نشيجاً وبأعلى صوته ولم يهتم لنظراتنا ودهشتنا ، وأيقنت عندها أن دموع جدي ليست منيعة ..وعرفت أن الرجل من الممكن أن يبكي ويكون ضعيفاً مثل المرأة ، وأن له دموعاً تُذرف وله نشيجاً مؤلماً ، وليس كما كانوا يقولون الرجل محصناً ضد البكاء والبكاء للنساء فقط، أما أبي فقد رأيت احمرار عينيه كأن الدموع عصية على النزول، لكن بعد ذلك أصيب بمرض الضغط وبقيت أمي تردد .. لو بكى كان ما صار عنده ضغط!!!
وبعدها بسنوات قرأت ما قالته عائشة الحرة والدة آخر ملوك للأندلس أبو عبد الله الصغير الذي سلم آخر المعاقل الاندلسية غرناطة لفردنانيد ملك قشتالة ، حيث قالت أمه عائشة الحرة بلوم وقسوة تاريخية ( ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال) ، أي أن آخر شيء قد يفعله الرجل هو البكاء ، وتعايره أنه مثل بكاء النساء وكان البكاء سياسياً، تاريخياً مزق الاحلام العربية .
و أرسل لي أحد الاسرى الفلسطينيين قبل أكثر من عشرين سنة رسالة كتب فيها ( عندما يبكي الرجال يموت كل شيء ) شعرت أن هذا البكاء بالنسبة للسجين هو قمة الغضب الممزوج بغموض المشاعر الإنسانية المتضاربة .
عندما التقيت بهذا الأسير بعد خروجه ، أكد أنه بكى هو ورفاقه ليس من شدة العذاب والحرمان والقضبان بل من اللامبالاة التي كانوا يعيشون بها ، لا أحد يذكرهم سوى عائلاتهم التي كانت تلاحقهم من سجن الى سجن ، من الصباح الباكر الى ساعات الليل الحالكة ، يتحملون غضب وبذاءة السجان والأوامر والممنوعات التي يرشونها كل يوم مثل الملح على الجروح ، فلا يعرفون متى سيتيح لهم السجان لقاء العائلة بلا منغصات وحواجز وشتائم .
وبعد ذلك رأيت صوراً عديدة للدموع السياسية، دموع الأسرى الذين خرجوا وهم يودعون زملائهم الأسرى الذين يموتون الواحد بعد الآخر، دموعاً خفيه تمسح بسرعة، يسرون في الجنازات وهم يعلمون أن سنوات السجن قد أكلت أعمارهم وما القبر إلا العنوان الأخير لبقايا الروح وعظام التحدي.
ورأيت دموع زوجي عندما سقطت بغداد عام 2003 ، لم أكلمه لأنه اختصر السقوط بقوله سقطت بغداد العرب ، وستكون بعدها عواصم العرب كأحجار الدومينو، تتساقط وراء بعضها البعض، وبكيت كثيراً عندما أطل صدام حسين من الحفرة مشعث الشعر ووجهه مصاباً بتجعدات الذل .
ورأيت دموع الرجال العرب الذين لجئوا الى دول أجنبية ، على الحدود وفي شوارع الذل وفي الساحات يطلبون الايواء و العيش الهادىء بعد هربهم من الحروب الدائرة في دولهم، ورأيت دموعهم أيضاً وهم يحملون جثث أولادهم الذين غرقوا في البحر وهم في طريقهم الى فصل من فصول الشقاء الإنساني .
ورأيت دموع الأب الغزي الذي هدم بيته وقتلت عائلته ، ورأيت دموع الأب الذي سرق الاستيطان أرضه ، لكنه ما زال يتشبث بأشجاره ، ورأيت الدموع الخفية لوالد الشهيد الذي يشيع أبنه ويبقى صامداً ، شامخاً لأنه زف أبنه دفاعاً عن الوطن ، لكن في الخفاء يذرف الدموع بصمت انسان مكسور ، بصمت رجل يخشى من الإفصاح عن عواطفه ، خاصة عندما يأتي أحد الوزراء أو المسؤولين ليشاركوا في العزاء وهو يعلم وهم يعلمون أن هذه الفقرة العابرة من المسرحية ستنتهي بعد خروجهم ولن يبقى أمامه إلا صورة أبنه الشهيد .
جميع صور البكاء الخاصة بالدموع السياسية وضعتها في ارشيفات الذل العربي، والذين اطلقوا على أحد الأيام ( يوم البكاء العالمي للرجال العرب ) قاموا بإهداء الواقع ملفا مؤلما للرجل العربي عناوينه ، بقايا رجولة المواقف ، بقايا أعراس كانت تحمل نبض التغيير .