-من مجموعتي القصصية "كابوس وغربة" / الاديب منصور اسماعيل حجاحجة
خبر عاجل**
" مقتل عشرين جندياً إسر... ا... ئي.....لياً وجرح أكثر من خمسين واست.. شهاد منف... ـذة العمليـة"
يوم عاشر يضاف إلى حصار البلدة ، دفتر مذكراتها صادروه ، قلمها كسروه ، كتبت على الحائط بدم جرحها النازف " وحـوش عبثت في عذريـة المكـان والزمان ، رسموا خارطة للموت ، حطموا قلم ساجدة ، مزقوا مريول ميسون ، قطعوا دفاتر الأطفال ، أدخلوا الموت في حليبهم ، بتروا شاهدي لأنه يسبح الله"
ازداد نزيف إصبعها ، سقطت على الأرض ، أفاقت بعد ساعـة ، الـدم يبلـل ملابسها ، تناولت آخر قرص علاج ، نظرت إلى صـورة والديهـا اللذيـن رحـلا عن الحياة قبل عامين بعد أن تركا لها وصية " دينـك ، عرضـك وأرضك " ، ربطت على إصبعها ، تناولت آخر زجاجة ماء غسلت وجهها المدور ، نظرت فـي المرآة ، رفعت شعرها عن وجهها ، حدقتا عينيها أكثر جرأة ، شفتاها تبتسمان لموكب شهيـد مـر في خاطرها ، يكـاد أن يلامٍـس روحهـا ، تهمـس لـه فترتــد إلى مسمعها أنغام كصوت طفل على صدر أمـه ، مشـت بضـع خطـوات ، كانـت تائقة إلى رؤية الشمس ، معرفة طور القمر ، فتـح البـاب ، خلـع الشبـاك الحديدي . فمنذ أن فرض العـدو حصـاره وبيتهـا ظـلام دامـس إلا من بصيـص نور يتسرب خلسـة عبر كـوة صغيـرة فـي أعلـى أحـد الجـدران، عشـش بها عصفور "دوري" ترتسم لصغاره صورة على الحائـط المقابـل كلمـا تعامـدت أشعة الشمس مع الكوة، كانت فداء تسمع أصوات العصافير الصغيـرة كلمـا هاجمها طائر غريب أو كلما شعـرت بالجـوع .
وبينمـا كانـت فـداء جالسـة تفكر في موكب الشهيد سقط أحد الفراخ الصغيـرة أمامهـا ، وضعـت أشيـاء فوق بعضها بعضاً ، صعدت ، وضعت العصفور في العش ، نظرت عبر الكـوة ، عربات الموت ما زالت تجوب الشوارع تهدم المنازل والمساجد ، تدمـر أشجـار الزيتون والبرتقال ، المدافع تحاصر البلدة ، الجنود ينتشرون ، يصطادون كل طفل ، يقاتلون ذاكرة كل شيخ ، الطائرات تصرخ ، تسكب موتاً ، وعنـد كـل شبـاك زرعوا " لغيم" ، حولت نظرها إلى المد اللامتناهـي مـن قبـور الشهـداء والتـي راحت تزحف بسرعة وكأنها في سباق إلـى حافـة الكـون ، تمنـت أن تكـون زهـرة فـي هـذا الحقـل ، تمنـت أن يكـون لهـا أخــاً أو إبنــاً كـي تهديه إلى وطنها ، شعرت بالخجل عندمـا تذكـرت أن كـل بيـت أنـار مشعـلاً إلا بيتها لم ينر بعد .
تركت الكوة ، نزلت ، برودة تتسرب إلى جسدها ، قشعريرة تدب فـي أوصالها ، عشرون " حولاً " تداهم مخيلتها ، كل حول يحمل ألف شهيـد ، وتمـر القافلة ، وتبقى صورة إيمان وآيات ونضال ماثلة أمامها ، أغمضت عينيها ، مـدت يدها لتلمس نور وجوههن ، تخيلت نفسها نجمة بجانبهن ، تضـيء ويتسـع نورهـا حتى تلامس كل أرجاء الوطن ، أفاقت على صوت جندي يقول :" هـذا المنـزل حولوه إلى ثكنة عسكرية ".
نزلت إلى الطابق الأرضي الذي يوصل إلى سـرداب ترابـي فـي نهايتـه "قن" دجاج ، دفن تحته " عبوات ناسفه " دججت جسمها ، عملت طبـق دجـاج ، وصلت الباب الخارجي ، ازدادت دقات قلبها ، فتحت الباب ، التقت عيناهـا بعيـني أبـي موسى جارهـم القديم الـذي قيـل عنـه انـه سافــر، وقيـل عنـه انه استشهد .. وقيـل ... وقيـل ، نـادي بصوتـه المبحـوح :
- إنها فداء يا سيدي آخر من بقي من أفراد المجموعة .
- بل أنا أول من يستشهد من أفراد المجموعة يا قذر ، إذاً أنت من يلاحقنا ؟!
- بل أنا أنفذ أوامر .
- إذاً مت وأنت تنفذ أوامر أسيادك أيها الخائن .
صرخ أحد الجنود به وقال :
- دعها تأتي إلى هنا .
- أين ذاهبة ؟
- إلى أختي .
- وهل تعلمين إن الدخول والخروج ممنوع .
- اعرف ، ولكني جئت آخذ تصريحاً .
- هل تحملين متفجرات في هذا الطبق ؟
- احمل طعاماً إلى أختي ربما تلد اليوم أو غداً؟
نادي الجندي أبا موسى وقال له :
- ذق هذا الطعام قد يكون مسموماً .
أخذ أبو موسى يأكل بشراهة
- انه شهي يا سيدي .
تجمع بعض الجنود حول الطبق واخـذوا يأكلـون ، وقـال لهـا أحدهـم هذا الطبق الأول وأنت الطبق الثاني .
ثم قال أبو موسى واللعاب يسيل من جانبي فمه :
- قد تدلي لنا بمعلومات وتتعاون معنا ونطلق سراحها .
نظرت إليه ، ثم حولت نظرها وكأنها تحصي عدد الجنود الذيـن سيموتـون بعد قليل . رأت أجساداً مقطعة أوصالها ، الكلاب تهاجم الجثث ، بقـع دم هنـا وهناك ، بيوت مدمرة ، سيارات إسعاف محروقة ، امرأة في حالـة مخـاض منعهـا جنود الاحتلال من الوصول إلى المشفى ، ركضت كي تساعدها تذكرت إيمـان وآيات ونضال ، رجعت ، قفزت إلى أعلى ، رمت بنفسها بين الجنـود ، انفجـار عظيم ، بكاء طفل زغرودة امرأة ارتفعت في سماء الوطن .
قطعت أجهزة " التلفزة " برامجها ونقلت :" مقتل عشرين جندياً إسر....ا...ئي....لياً وجرح أكثر من خمسين واستشهاد منفذة العملية البطولية ".